يشهد المسرح القومي في القاهرة هذه الأيام حالة من الحراك الفني الاستثنائي، بعدما عاد النجم الكبير يحيى الفخراني لتجسيد شخصية الملك لير، أحد أعظم أدوار المسرح العالمي وأكثرها عمقًا، في عرض مسرحي يحقق إقبالًا جماهيريًا غير مسبوق. منذ انطلاق العروض مطلع يوليو الجاري، تنفد التذاكر فور طرحها، ويكتظ المسرح بالحضور من مختلف الأعمار والطبقات، في مشهد يعكس شغف الجمهور بالفن الراقي.
أسطورة شكسبير تكتسب روحًا مصرية
مسرحية “الملك لير”، رائعة الأديب الإنجليزي ويليام شكسبير، وُلدت قبل أكثر من خمسة قرون، لكنها لا تزال تتجدد مع كل جيل. الشخصية التي تجمع بين القوة والضعف، الحكمة والتهور، الأبوة والخذلان، تمثل تحديًا لأي ممثل، وقد سبق أن جسدها عمالقة التمثيل العالمي مثل لورانس أوليفييه وأنتوني هوبكنز، لكن في العالم العربي ارتبط اسم الملك لير ارتباطًا وثيقًا بـ يحيى الفخراني، الذي قدّم الدور بأشكال مختلفة على مدار أكثر من عقدين.
من خشبة المسرح إلى دراما الصعيد
بدأت رحلة الفخراني مع “لير” عام 2001 في عرض كلاسيكي على المسرح القومي، ثم عاد إليها في 2014 عبر الدراما التلفزيونية بمسلسل “دهشة”، الذي كتبه عبد الرحيم كمال وأخرجه شادي الفخراني، حيث تمصّر النص إلى بيئة صعيدية، ليصبح الملك العجوز عمدة قرية تواجه أحداثًا مشحونة بالصراعات العائلية والسياسية، في إسقاط ذكي على واقع المجتمع المصري بعد ثورة يناير.
إطلالة جديدة في 2025
في نسخته الحالية، يعود الفخراني إلى النص الأصلي بلغة عربية فصحى رصينة، بترجمة الكاتبة فاطمة موسى، على خشبة المسرح القومي التاريخي بميدان العتبة. هذه العودة تأتي وسط ديكورات بصرية مبهرة، وتقنيات عرض حديثة، أبرزها الشاشات العملاقة التي تنقل الجمهور إلى عوالم الطبيعة القاسية التي تحاصر الشخصيات، من عواصف وبرق إلى أراضٍ جرداء تكسوها الثلوج.
إقرأ أيضا: إحالة الفنانة بدرية طلبة للتحقيق بعد تصريحات “أسياد البلد”.. القصة الكاملة وردود الأفعال
تحديات فنية وإخراجية
إخراج العرض الحالي يتولاه شادي سرور، الذي مزج بين عناصر بصرية من عصور مختلفة، وهو اختيار أثار نقاشات بين النقاد؛ فبينما رأى البعض أن الخلط بين الأزمنة يمنح العرض طابعًا تجريبيًا، اعتبر آخرون أن بعض التفاصيل، مثل رقصة الفالس الافتتاحية، تبعد المشاهد عن أجواء القصة الأصلية التي تدور في زمن وثني قاسٍ.
أداء أسطوري للفخراني
ما لا يختلف عليه أحد هو الأداء المذهل ليحيى الفخراني، الذي يتنقل بسلاسة بين لحظات القوة والانكسار، وبين الحكمة والجنون، مستحضرًا كل خبراته المسرحية والتلفزيونية في إلقاء النصوص الفصحى بإتقان يندر أن نشهده اليوم. وبالرغم من تجاوزه الثمانين، إلا أن حضوره الطاغي على خشبة المسرح يجعله يبدو وكأنه يستمد طاقته من الشخصية نفسها.
نجوم يشاركون البطولة
يشارك الفخراني في العرض نخبة من الممثلين، أبرزهم طارق الدسوقي في دور جلوستر، الذي يقدم أداءً مؤثرًا ومتماسكًا، وأحمد عثمان في دور إدموند الخائن، إضافة إلى مجموعة من الوجوه الجديدة والقديمة التي تؤدي أدوار بنات لير وشخصيات البلاط الملكي. إلا أن بعض النقاد أشاروا إلى تفاوت مستويات الإلقاء والأداء بين الممثلين، خاصة في الأدوار النسائية، وهو ما أرجعوه إلى مسؤولية الإخراج أكثر من قدرات الممثلات أنفسهن.
رسالة إنسانية وسياسية
رغم أن النص يركز على مأساة عقوق الأبناء وخيانة الأقارب، إلا أن المخرج أضاف لمسة إنسانية عبر إدخال مشاهد لمجموعات من الفقراء والمشردين، في تذكير بأهمية التعاطف الاجتماعي، وهي رسالة تكتسب أهمية خاصة في السياق المعاصر. كما يمكن قراءة المسرحية كإسقاط على أوضاع سياسية، حيث تتسبب أنانية القادة وانغماسهم في الصراعات الشخصية في خراب البلاد.
نجاح جماهيري وفني
الإقبال الكبير على عرض “الملك لير” في 2025 يبرهن على أن الجمهور المصري ما زال متعطشًا للفن المسرحي الجاد، شرط أن يُقدَّم بأسلوب يجمع بين العمق والإبهار. ويُحسب لإدارة المسرح القومي أنها جعلت أسعار التذاكر في متناول الجميع، ما سمح بحضور جمهور متنوع ثقافيًا واجتماعيًا.
إرث مسرحي يتجدد
مع كل عرض جديد لـ”الملك لير”، يضيف يحيى الفخراني فصلًا جديدًا إلى إرثه المسرحي، مثبتًا أن الفن الحقيقي لا يشيخ، وأن النصوص الكلاسيكية قادرة على البقاء ما دام هناك مبدعون يمنحونها الروح والحياة.