في إنجاز علمي مذهل قد يفتح آفاقًا جديدة لفهم مصادر الطاقة الطبيعية على كوكب الأرض، أعلن فريق بحثي من الأكاديمية الصينية للعلوم عن اكتشاف نظام حراري مائي فريد من نوعه في أعماق خندق موصو الواقع غرب المحيط الهادئ. ويُعتقد أن هذا الاكتشاف قد يكون أحد أكبر مصادر انبعاث الهيدروجين البحري التي تم رصدها حتى اليوم، ما قد يمهد الطريق لاستخدامات مستقبلية في مجالات الطاقة النظيفة والبحث العلمي.
رحلة إلى أعماق المحيط: غواصة “فيندو زي” تكشف الأسرار
بدأت القصة عندما أطلقت الصين الغواصة المأهولة “فيندو زي” في مهمة استكشافية إلى أعماق تزيد على آلاف الأمتار تحت سطح البحر. وخلال هذه الرحلة، لاحظ العلماء تدفق كميات هائلة من غاز الهيدروجين من قاع المحيط في منطقة لم يسبق أن تم توثيق نشاط مماثل فيها من قبل. هذه الانبعاثات كانت مفاجأة غير متوقعة، حيث أن الظروف الجيولوجية للموقع لم تكن تتوافق مع النظريات السائدة حول أماكن تشكّل الهيدروجين.
المجمع الحراري “كونلون”: غابة من الأنابيب الحجرية تحت الماء
أطلق العلماء على هذا النظام اسم “كونلون” (Kunlun)، ويقع على بعد نحو 80 كيلومترًا غرب منخفض موصو، في منطقة نشطة تكتونيًا تشهد تفاعلات جيولوجية مستمرة. ووفقًا لنتائج المسح، يتكون النظام من 20 حوضًا حراريًا مائيًا ضخمًا، يتجاوز قطر بعضها كيلومترًا كاملًا.
ما يميز هذا الاكتشاف هو الشكل المذهل للتضاريس البحرية، حيث ترتفع من القاع أنابيب حجرية عمودية أشبه بـ”غابة صخرية” تتصاعد من خلالها الغازات والسوائل الساخنة من أعماق الأرض.
هذه الظاهرة ليست مجرد مشهد جيولوجي فريد، بل تمثل بيئة كيميائية وفيزيائية معقدة تسهم في إطلاق كميات كبيرة من الهيدروجين.
كيف يتشكل الهيدروجين البحري؟
عادةً ما يتشكل الهيدروجين في البيئات البحرية عبر عملية تعرف باسم “السربنتنة”، وهي تفاعل كيميائي يحدث عندما تتفاعل الصخور الغنية بالحديد والمغنيسيوم مع مياه البحر، ما ينتج عنه تحرير غاز الهيدروجين.
لكن ما يجعل “كونلون” مختلفًا هو أن حجم وموقع الانبعاثات يتحدى هذه القاعدة العلمية، حيث لم يتم رصد مثل هذا النشاط بعيدًا عن مرتفعات منتصف المحيط من قبل.
أهمية الاكتشاف لمستقبل الطاقة
تشير تقديرات الباحثين إلى أن تدفق الهيدروجين السنوي من نظام “كونلون” يعادل 5% على الأقل من إجمالي انبعاثات الهيدروجين من جميع المصادر البحرية على مستوى العالم.
هذا الرقم الضخم يفتح الباب أمام تساؤلات مهمة حول مدى إمكانية استغلال مثل هذه المصادر في إنتاج الطاقة النظيفة، خاصة وأن الهيدروجين يُعتبر وقود المستقبل لكونه خاليًا من الانبعاثات الكربونية عند استخدامه في الخلايا الوقودية.
تحدي المفاهيم العلمية السائدة
أكد البروفيسور سون ويدونغ، أحد المشاركين في الدراسة، أن هذا الاكتشاف يغير فهم العلماء لآليات تشكّل الهيدروجين البحري.
وأضاف أن الموقع الجيولوجي للنظام وحجمه الهائل يثبت أن الهيدروجين يمكن أن يتشكل في بيئات جيولوجية متنوعة، وليس فقط في مواقع محددة كما كان يعتقد في السابق.
فرص بحثية مستقبلية
لا يقتصر هذا الاكتشاف على الجانب الجيولوجي أو الطاقوي فقط، بل يمتد تأثيره إلى علوم الأحياء البحرية. فالأنظمة الحرارية المائية تعد موطنًا لكائنات دقيقة نادرة تعيش في ظروف قاسية تعتمد على الكيمياء الحيوية للهيدروجين والكبريت بدلاً من الضوء.
دراسة هذه الكائنات قد توفر رؤى مهمة حول أصل الحياة على الأرض وحتى على الكواكب الأخرى.
خطوة نحو فهم أعمق لكوكبنا
يمثل اكتشاف نظام “كونلون” الحراري المائي في أعماق المحيط الهادئ تقدمًا علميًا كبيرًا، فهو لا يسلط الضوء على مورد طبيعي ضخم للهيدروجين فحسب، بل يدفع العلماء إلى إعادة النظر في الفرضيات المتعلقة بتوزيع وتشكّل هذا العنصر في بيئة كوكبنا.
ومع استمرار الأبحاث، قد نجد أنفسنا أمام موارد بحرية غير مستغلة يمكن أن تساهم في حل أزمة الطاقة العالمية بطريقة صديقة للبيئة.